القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الاخبار
فى كتاب مذكرات الدكتور مصطفى محمود

(حكايتى مع التصوف) يقول :
................
كتبت قصة قصيرة عن هيام وحب وتجلى الصوفى الذى يرى الله فى كل شىء ويرى كل الأشياء الجميلة فى الله وداخل هذه القصة وجهت إلى بعض الصوفية فى مصر وليس المتصوفين نقدا حادا،
حيث إننى وجدت أن هناك مسألة لا يمكن الصمت عنها وهى الخلط بين الظاهر والباطن.. وبين الأشياء والله.. حينما يدعون على الله أشياء غير حقيقية،
وهو ما أغضب الكثير منهم بعد ذلك ووجهوا لى نقدا شديداً وكانت القصة هى الآتية:
«مد الرجل ساقيه فى البحر فى استرخاء لذيذ ونظر إلى البحر المديد الأزرق كأنه يشرب ويشرب لونه وترك روحه ترضع من هذه الشفافية اللؤلؤية والأنوار المتشعشعة الذائبة فى المياه..
شىء ما فى ذلك البحر كان يبدو لعينيه وكأنه من وراء العقل ومن وراء الحس شىء كالغيب يسطع خلال الظاهر، وتذكر كلمات ذلك الصوفى الذى قال إنه اشتاق إلى ربه وأنه احترق إليه شوقا وكاد عقله يهُلك عجزا عن بلوغه لولا أن نور الله كان يلوح له من وراء استار الغيب ومن خلال الجمال المتجلى فى الوجود فيروى ظمأه بين الحين والحين، وذلك هو الشرب والسكر الذى يحكى عنه الصوفية شرب الجمال المتجلى فى الوجود ذلك الشرب المغيب الذى يترك الروح نشوانة هيمانة تهتف.. الله.. الله.. وقد أدرك صاحبنا فى جلسته أمام البحر لأول مرة ذلك المعنى البعيد الذى يحكى عنه الصوفية،
وشعر بذلك الشرب المغيب وهتفت روحه النشوانة،
وقد أدركت طرفا من تلك الحضرة الإلهية المتجلية فى الأشياء التى هتفت فيها هيمانة سكرانة.. الله..
 لقد اتصلت روحه لأول مرة بنبع الحُسن ومصدر الفتنة وسر الجلال والجمال فى الأشياء، وباشر تلك الرجفة الكهربائية وأحس بتلك الرعشة الروحية وهو يلامس السر السارى فى الوجود وفى نفسه وذلك هو حضور المحبوب لمعشوقة التى كان يسأل عنها المحب الهيمان طوال الوقت ويبحث عنها ويرتحل اليها،
هى طوال الوقت معه دون أن يدرى فى سواد عينيه وفى حنايا ضلوعه وأقرب اليه من حبل الوريد:
ومن عجب أنى أحن إليهمو
وأسأل عنهم من رأى وهمو معى
وترصدهم عينى وهم فى سوادها
ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى
فما كان الحسن والجمال والفتنة التى لمح طرفا منها فى الشفاه والخدود والقدود إلا مددا من ذلك الغيب المغيب، ولا كان إلا تجليا لذات الحسن المتفردة «الذات الإلهية» التى هى أقرب إليه من نفسه وأقرب إلى عينيه من سوادهما وأقرب إلى لسانه من نطقه، إن ليلاه فيه وهو يقطع البوادى بحثا عنها «وذات الحسن المتفرد» التى أفاضت من حسنها البديع على كل شىء أقرب إليه من حبل وريده، وأوثق اتصالا به من دمه فى شرايينه، وحينما يدرك الصوفى ذلك يصيبه برد السلام ويهدأ فى جوانحه طائر القلب وتنشر عليه السكينة لواءها ويصبح صاحب الوجه النورانى والنفس المطمئنة الذى لا تزلزله الزلازل ولا تحركه النوازل».
ويستطرد «شعر صاحبنا بتلك الأنوار وهو جالس أمام البحر وأمامه قطف من عنب مثلج ورأى كل حبة عنب وكأنها تختزن داخلها نورا، وحينما ذابت فى فمه بردا وحلاوة شعر كأنما تعطيه سرها وتبوح له بمكنونها، وكان فى تذوقه لحلاوتها شيئا كالعبادة، وكأنما كان ربه هو الذى يطعمه ويسقيه مباشرة وبدون وساطة، ويناوله من كف الرحمانية ليأكل ويشرب..
وتذكر قول عميد العاشقين الإلهيين ابن الفارض حين قال:
<<شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم>>.
ويتابع د. مصطفى محمود
«إن وصف الشاعر بخمر الكرم من قبل أن يخلق الكرم ويقصد بها خمر السر المودعة فى الأشياء من قبل أن تخلق الأشياء، تلك هى خمر الأنوار المودعة كل الأشياء، وكل مؤمن مازال يعاود السجود مثل الملائكة كلما استشعر هذه الأنوار وكلما باشر سرها وذاق حلاوتها سجدت جوارحه وهتفت.. الله.. الله.. ووشوش له البحر بهذه الكلمات وكاشفه بتلك الأسرار وهو يهدهده بأمواجه ويتناثر كحجاب الماس على وجه ساقيه، وبقدر ما كانت صفحة البحر تبدو له هادئة ساكنة مطمئنة كان باطن البحر يقول له:
باطنى وسع العالمين وسع الحياة والموت وسع كل شىء علما..
كان البحر أشبه بالرمز المهموس والإشارة الدالة والمثل المضروب على القدرة..
 فهو الظاهر سبحانه ولكنه ليس المظاهر وتلك هى الفتنة التى يقع فيها المؤمن والكافر،
تقول له المظاهر الجميلة وهى تدعوه إلى نفسها بجمالها فى سورة البقرة:
«إنما نحن فتنة فلتكفر»
فإذا افتتن بها ووقع فى أسر جمالها وعبدها وقع فى الشرك الخفى وهلك، وذلك هو حال الأغلبية والكثرة من عشاق المظاهر وعباد المال والجاه والنساء، وإذا أدرك أنها فتنة ليست منها ولكن من الله المتجلى فيها، وأنها كالمصابيح فى زجاجات.. مصابيح لا تضىء بذاتها وإنما بمدد وأسلاك من شجرة مباركة هى التى تأتى منها الإنارة لكل المصابيح،
فإذا أدرك ذلك تجاوز بعبادته كل المظاهر وكل المصابيح المنيرة وتوجه إلى الله الذى ينيرها كلها بنوره وخرج من زحام الكثرة إلى صفاء الوحدة واختص الله وحده دونها بالعبادة ونجا، وهو حال القلة من العارفين وهذا سر الدنيا ولهذا خلقها الله لتمتحن بإغرائها معادن النفوس ويتميز بها العارف من الجاهل وتتميز بها المراتب والمنازل والدرجات ويعرف بها أهل الصدق صدقهم وأهل الكذب كذبهم حينما تنشر الأعمال وتهتك الأسرار فى يوم الحشر ويوم التغابن الذى لا ينفع فيه ادعاء الأدعياء ويوم يشعر كل إنسان أنه غبن نفسه حينما تعجل لذة تافهة وزائلة لا تساوى شيئا وحرم نفسه من ميراث جنة لا تنفد لذائذها.. ووشوش له البحر وهمس له الموج وتناثر كالماس على وجهه وقدميه واتصل السر بالسر ومضى الحوار».
.........
ملحوظة :
يظهر بالصورة الدكتور مصطفى محمود فى آخر أيامه وخلفة شهادة نسبه للدوحة النبوية المسجلة بنقابة الأشراف.
       
هل اعجبك الموضوع :

تعليقات

التنقل السريع